مسافة أمان

كثيرة هي  الأحداث التي نمر بها وقليلة تلك التي نكون قبلها شيئا ونعود بعدها شيئا آخر ..فأحيانا نختار سبيلا ليتحول إلى نمط حياة ....
وتلك المسافة اللعينة لم كان عليها أن تغير جلدها كل مرة ؟ أن تلبس عباءة سوداء لا تسير ومقاسها ؛ بالأمس فقط كانت  اختيارا كرها أحال قلبها فارغا ؛واليوم هي واجب طوعا ...
 كيف لها أن تغير العاطفة لعاصفة وأمل الانتظار لخوف من اللقاء به ؟
لم تستسغ قط قراره بالبعد عنها وإن كان من أجلهما ومن أجل  الطفل بأحشائها ؛ أن يوفر لهما ما يحتاجانه؛ إن سافر للضفة الأخرى  ؛هناك تتحقق الأحلام في العيش الكريم ؛وهناك يموت آلاف المهاجرين سرا على مراكب الأمنيات... كان البحر معه كريما والصخور لم تشي به واستطاع الوصول لسواحل اسبانيا ومنها انتقل بعد مرور الشهور لإيطاليا ...
وبعد سنة من الترقب والدموع التي لا تنام ؛ تصل أول حوالة منه لتكسر الانتظار وتزيد في عمق المسافة ؛ كانت تعلم أن أول حوالة ستتبعها حوالات وتنازلات وانتظارات ومسافات أطول  ؛وهاهي الذاكرة تتآكل بفعل السنين كما يأكل الملح سفينة قديمة ؛ ولا يستطيع معها  أن يعود ولو بزيارة خفيفة لوطنه    فمازال يعمل كمهاجر سري ؛ تلك الأوراق  السحرية التي ستجعله كائنا لا شبحا يعمل في الخفاء  لم يحصل عليها بعد  ؛فلا هوية له هناك ولا تلك التي يحملها تساعده ...
 فمن عساه يكون؟ هناك  ليس إلا يدا عاملة رخيصة وهنا رقم يضاف على لائحة الذين يدخلون العملة الصعبة للبلاد  ووسط كل هذا وذاك يفقد بوصلته في أن يحمل هوية تثبت أنه هو  هنا وهناك  ...
تزداد المسافة في الاتساع كأنها بقعة بنزين طافية على وجه  بحر مضطرب تتقاذفها الأمواج ولا تفصلها عن بعضها بل تزداد تماسكا واتساعا ...
ويطل فجأة على العالم ودون سابق إنذار فيروس كورونا ؛بالأمس كان في الصين ليصبح في بلد آخر ثم في آخر كأنه سائح يطوف العالم في رقم قياسي ينافس فوكس في رحلته حول العالم في ثمانين يوما  ؛ يتسع مع الأيام عدد المصابين ...الهلع يسيطر على الجميع... وأخيرا لم تعد الحرب تتوسط الأخبار ؛لا أحد يرغب في أن يقلل من شأنه ؛ بات الجميع متفقا على أن يعلن حالة الطوارئ ؛ لا صفقة قرن ولا حرب سوريا ستقض مضاجعنا ...
إنها كورونا تلك المولودة الحرامية التي يأبى الجميع وأدها ؛ نريدها قشة نحتمي بها من شرنا ؛والظريف أن الهلع نحن فيه سواء فقير وغني ؛قاتل ومقتول وهذا ما يجعلها زائرا بقدر ما نهابه  ؛يستلطفه  الضعفاء منا  في أعماقهم 
يعود لبلده يحمل معه لعبة للصغير كورونا الجميلة جعلته في حجر صحي ...
وهي لم تعد تستعجل رجوعه تلك المسافة تلبس قناعا آخر لم تعد لعينة إنها الآن  مسافة أمان ....

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.