حين عادت كيلوباترا
الشمس في كبد السماء؛ حين فتحت عينيها ونهضت في لمح البصر ؛كمن لدغتها أفعى على حين غرة.... تقلب عينيها في المكان وهي مشدوهة بما تراه.... بدا لها ما يحيط بها مضيىئا وضيقا ...محصورا ورطبا ...نظيفا وداكنا...
لم تستطع أن تحدد حالتها .. بين الارتياب والجزع بين الدهشة والحيرة الممزوجة بكبرياء امرأة اعتادت الشموخ؛ لوهلة انتابها إحساس انها وسط دائرة مغلقة... فكرت لهنيهة ألن يكون ذاك من سحر بطليموس وجودها في هذا المكان الغريب....لكنها تذكرت أنها قد جندت أفضل السحرة في البلاد لحمايتها...
مسكت رأسها بيدها تحاول أن تتذكر آخر لحظة مرت بها... نعم أنطونيوس تتذكر جيدا كان آخر من هتفت باسمه لاتدري مالذي حصل لها بعد ذلك وهاهي الان تجد نفسها في هذا الجحر الغير عادي...
-"أنطونيوس أين أنت؟ "صرخت بصوت مضطرب
ثم نظرت حولها لتجد شابا ينام في الجهة المقابلة لها ....
تفرست في ملامحه للحظة بدا لها كعبد مصري؛ قمحي اللون ؛بملابس لم تعهدها صرخت في وجهه بأعلى صوتها
-"يا... أنت... من تكون؟ وأين أنا؟"
استيفظ الشاب مذعورا... التفت إليها بشبه استدارة بدا لوهلة لا يعي ما يحصل له
-من أنت؟ وكيف دخلت شقتي ؟
-ويحك أيها العبد ألا تعرف من انا.... انا كيلوباترا ملكة مصر... من تكون أنت؟ وكيف وصلت إلى هنا ؟وماهذا المكان المقرف؟ وما هاته الفوضى المنتشرة ؟
-هل جننت يا امرأة أم أصابك مس... أنت في شقتي في حي النبي دانيال في الاسكندرية.. كيف دخلت إلى هنا ؟
-مادا تعني بشقتك ؟وأين هو قصري؟ أين الخدم والعبيد؟
-حقا أنت مجنونة ؟أم أنني أهذي؟ أم أنه حلم ومازلت نائما ؟؟
رنة رسالة على الواتس أيقظته من هذيانه تناول الهاتف ليقرأها كانت من صديقه يذكره بمموعد لقائهما ليحضرا مباراة كرة القدم لفريقهما المفضل ....
لم ينتبه للمرأة التي كانت ترتعد أمامه ؛ وهي ترى الهاتف يومض وهو بين يديه ليختفي وميضه بعدها
بصوت مرتبك وعينان جاحظتان سألته
-ما هذا الشيء أأنت من أعوان بطليموس أيها الساحر؟ اعترف وإلا جعلتك وجبة عشاء لأسودي ...
-من بطليموس هذا يا امرأة؟ومن تكونين بحق الله؟
-من تكون أنت بحق الالهة؟ وأين أنا ؟
ظلت عيناه شاخصة لوهلة في الفراغ؛ وبحركة خفيفة وسريعة استدار نحوها ليجدها وقد انشغلت بتأمل خيوط الشمس ؛وهي تتسرب من النافذة وتصيخ السمع لأصوات أزيز الأبواب وصوت أقدام بالخارج وهي مندهشة... تحاول أن تدس الحيرة بداخلها حتى لا تبدو عليها علامات الخوف أو الوجل...
نظر الى المكان كمن يراه لأول وهلة ....من السهل أن نغفل ما تألفه أعيننا فعندما نعيش في مكان ما تنسحب تفاصيله إلى الخلفية وينصب تركيزنا غالبا لما نفعله في تلك اللحظة... لم يكن ليفكر قبلا في تفاصيل المكان؛ الآن كل شيء أمامه له أرواح وظلال :
طاولة صغيرة محاطة بكرسيين ؛بعض الحاجيات المرمية هنا وهناك؛ أوراق مكدسة فوق مكتب صغير وأخرى مكومة بجانبه ؛ قصاصات لجرائد مبعثرة؛ وحاسوب نصف مفتوح على صورة امرأة ترتدي لباس الفراعنة ....
حاول أن يعود بذاكرته لأقرب حدث مر به إلا أن تدفق الذكريات من كل لون وتزاحم الأحداث في مخيلته جعل كل الصور تتراقص أمامه... زوجته وهي تغادر المنزل ؛ صاحب البيت وهو يطالبه بإخلاءه لأنه لم يدفع سومة الكراء؛ رئيس تحرير المجلة التي يعمل بها وهو يوجه له إنذارا بالطرد إن لم يقدم قصته الاسبوعية في ميعادها... أي طقوس من الكلمات يحتاجها لترمم كل هذا الخراب ....
نظر إليها يحاول أن يفهم ما يجري في شقته وفي غرفة نومه ؛كانت واقفة كالتمثال تحملق في صورة على الجدار فوق السرير ؛صورة لكيلوباترا ...انتقل ببصره بين الصورة وبين المرأة الواقفة أمامه
-أخبريني أيتها السيدة كيف دخلت شقتي؟ وماذا تفعلين بهاته الملابس؟ هل أنت ممثلة تهت عن طريق الاستوديو بعد ليلة ماجنة مثلا؟
-ويحك أيها العبد كيف تخاطب سيدتك دون أن تنحني وتركع ؛ ثم رمقته بنظرات قاسية بدت له أقسى من صاحب الدكان عند مدخل الحي وهو يطالبه بما على ذمته من مال ...
صمتت للحظة كأنها تستعد لقول شيء بالغ الأهمية ثم أضافت
-كيف سمحت لنفسك أن ترسمني بدون مساحيق للتجميل ؟
بدت عليه الحيرة والدهشة مما يراه لم يعد متأكدا مما يجري من أحداث أمامه الآن ؛هل هي حقيقية أم من وحي خيال كاتب ؛إن كانت كذلك لا بد له أن يستيقظ من هذا الحلم ؛ أخذ يقرص نفسه في أماكن مختلفة من جسمه دون جدوى ؛ فالمرأة مازالت أمامه تنظر إليه شزرا بلباس فرعوني ؛ تفحصها من رأسها لأخمص قدميها وقرر أن يجاريها لعله يستطيع إخراجها من الشقة
انحنى راكعا أمامها وخاطبها بكل هدوء
-سيدتي الملكة أنا جد سعيد أنك شرفت شقتي المتواضعة
تململت في مكانها وتغيرت نظراتها لتنصب على الهاتف الذي بين يديه وهو يرن مرة أخرى سارع إلى إسكاته لتبدو عليها أمارات الدهشة
-لا تخافي سيدتي ليس سوى هاتف
-ماذا تعني بهاتف ؟
يعني وتلعثم في بقية الجواب وهو يفتش عنه في ذاكرته المهم سيدتي كيف وصلت إلى هنا؟
تغيرت نبرة صوتها وهي تحاول أن تستعيد الأحداث الماضية
- ماأذكره أني بالأمس كنت غاضبة من أنطونيوس حين وجدته مع إحدى الجواري يغازلها ؛فدسست له السم
ونحن نتسامر وشربت مشروبا كان قد أعده لي أحد الكهنة يجعلك تنتقل بذاكرتك إلى حيث تريد ؛ وفكرت حينها لو أني استيقظ فقط بعد مئات السنين أكون قد نسيت خلالها خيانة أنطونيوس لأستيقظ وأجد نفسي هنا
-يبدو أن المحلول قد نجح سيدتي لنت فعلا في زمن آخر يبعد عدة قرون عن عصرك
ثم ضحك من نفسه كيف له أن يصدق هاته الترهات كل ما هناك أنها امرأة مجنونة لا يدري كيف دخلت شقته ... على أي لن يخسر شيئا بمجاراتها
-تقول زمنا آخر وكيف سأعود لقصري ؟
سارعت للنافذة الوحيدة في الغرفة وهالها حين رلات السيارات في الشارع والناس تسارع الخطى في اتجاهات مختلفة...
-يا هذا ماهذا المكان ؟إنه مختلف والناس أيضا أريد أن أعود لقصري
أراد أن يستهزئ بها فيجاريها أكثر فسألها :
-وإن وجدت أنطونيوس مازال حيا ماذا ستفعلين ؟
-سأدس له السم ثانية ذاك الخائن وأقتل نفسي بعدها لا أريد مشروبا يعيدني بعد عدة قرون
-هل تذكرين ذاك المحلول سيدتي هل أخبرك الكاهن بمحتواه
-نعم لا يمكن أن أشرب شيئا قبل أن أعرف مكوناته
-طيب وما هي المواد التي كانت فيه ؟
وقبل أن تفتح فمها لتتكلم كانت قدماها تغوص في الأرض شيئا فشيئا
هلع الشاب مما يراه تسمر في مكانه لوهلة
-سيدتي أنت تغوصين في الارض لا أصدق ما أراه أنت حقا كيلوباترا انتظري أنا اصدقك الآن لا تذهبي ...
-نسيت أن أخبرك أن الكاهن أخبرني أني إن تذكرت خيانة أنطونيوس بعد استيقاظي سأعود من حيث أتيت..
-تبا لي أنا من ذكرك به
أدرك الشاب فعلا أنه كان امام معجزة لا أحد سيصدقه إن أخبره بذلك ؛ فكر في هاتفه للاخذ صورة ستكون لقطة العمر ؛ فكر أيضا أن يسأل عن محتوى المحلول بسرعة...
سيلتقط الصورة ويسألها في نفس الوقت
الوقت ينفذ منه وهي تتلاشى أمامه وهو يصرخ ماذا كان يوجد بالمحلول ؟؟؟
ليلتقط صورة له وهو يصرخ كانت الكاميرا معدة لأخذ سيلفي
ليست هناك تعليقات: