صرافة



لطالما اشتاقت للغة بدون أرقام ....لخطوة صغيرة تكون قفزة عملاقة تنشد بها الضياء ....وهي تخطو كل يوم في الطريق لعملها انتبهت لأول مرة  لتلك الأشجار المتراصة على طول الشارع ... أحست لكأنها تتأملها من نافذة قطار .... قابعة  هي في مكانها والأشجار تمضي في طريقها    ..
تساءلت كيف أمكن لشجرة أن تتقن مقاومتها للبرد القارس ....ثم أردفت ألا  تتقن هي أيضا  اللاعيش منذ أن عملت كصرافة في سوق ممتاز .....هذا العمل حصلت عليه بعدما توسلت أمها للسيدة التي تعمل عندها كشغالة ...حيث تقضي بياض يومها تنظف شقتها وتعتني بالطفلين بعد عودتهما من المدرسة ...وقد توسطت لها مشغلتها لتلك الوظيفة لابنتها بعد جهد وعناء تطلب منها الاستمرار في عملها حتى العاشرة مساء عوض الثامنة كما كان مقررا 
العمل كصرافة.... أغلبنا يمر على تلك الفتيات في صندوق الأداء وهن منكبات على  عد النقود أو تمرير سلع قد تصل للأطنان  تزن ثقل فيل لليوم الواحد ...هناك من يلقي عليهن التحية وهناك من يكتفي بهز رأسه ...هناك أيضا  من يمر دون أن يلتفت إليهن كأنهن شيء اعتاد أن يمر بجانبه ....
التحقت بعملها صباحا ...لديها نوبة تمتد لثمان ساعات متواصلة ...تكسرها نصف ساعة استراحة 
ثمان ساعات تمرر خلالها المئات من المواد التجارية... ثمان ساعات لتسمع بيب وتمرر بطاقات الصرف ...أو تعد النقود 
ثمان ساعات تمر عليها وجوه مختلفة... من يبتسم في وجهها وآخر يتمتم بحروف مبهمة... وآخر مستعد لأن يصرخ في وجهها ..إن لم تعد له تلك الفكة الصغيرة التي قد لا تتوفر عليها في ذاك الوقت بالضبط ....منهم من يبتسم ويسامح ومنهم من  يتهمها بالسرقة  وأنها ستحتفظ بها لنفسها ...وهي تنظر اليه... قد تلعنه في الخفاء وتمرر  باقي السلع لزبون آخر 
-تأخرت 
-لدقيقة واحدة فقط 
-إنها موعد استراحتي 
-أعتذر 
هكذا بدأت نوبتها لهذا اليوم بعدما أخذت مكان زميلتها 
نفس البيب.... نفس الروتين ... وهي طفلة كانت تحلم أن  تصبح ممرضة  ؛أو ربما  معلمة ....
  في اي وقت  قد تنتهي أحلام الطفولة ؟
متى تصبح تلك الأمنيات البسيطة  المستحيلة ممكنة ؟متى نفقد جمال تلك اللحظات التي كنا نحلم فيها ؟
يبدو أنها لم تكن بحاجة لتكبر ...كان  فخا أن تخرج من عالم الطفولة ....لتترك أحلامها على الرصيف وتمضي وحيدة في طريقها ....وهاهي الآن هنا 
أيادي كثيرة تمر... وسلع أيضا وكثير من الحكايا تخفيها تلك التحية الصباحية أو المسائية ..
آخر النهار تعد النقود لتسلم محتوى الصندوق للمسؤول وكل أملها ألا يكون هناك نقص في الحسابات ولو كان طفيفا حتى لا تضطر لإعادة الحساب مرات ومرات وربما  سد النقص من     راتبهاالمتواضع 
استيقظت من هواجسها  حين تراءت لها الأشجار عن بعد وهي تقترب منها ببطء.....

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.