رعب بعد منتصف الليل

بالأمس احتفلت بعيد ميلادي الثامن عشر  ؛ وأخيرا سأصبح حرا  سأتخلص من قيود والدتي التي كبلتني طوال السنوات الماضية وجعلتني أعيش في ضيق شديد ....
  بعد وفاة والدي من أربع سنين حرصت أمي على رعايتي وتوفير كل ما أحتاجه لكن  بالمقابل   حمايتها لي أصبحت مضاعفة  أكثر مما تفعل مع أختي التي تكبرني بسنتين  ؛وكم كان خوفها علي مصدرا لقلقي وانزعاجي؛ لم أستطع قط أن أمارس حريتي في الانطلاق واكتشاف ما يحيط بي ؛ دوما أجدها ورائي  إن تأخرت ولو لمدة بسيطة عن المنزل  ؛أجدها تسأل بواب المدرسة والحراس وتزور منازل أصدقائي حتى أني أجد كل سكان الحي يبحثون عني  ؛  كان خوفها المبالغ كحبل تم إحكام شدته علي  ليخنقني ؛ و كلما أبديت امتعاضي واستيائي تخبرني أنها ستتوقف عن ذلك حين أكبر ؛ ستتركني وقتها أخوض غمار الحياة  وحدي حين أصبح رجلا قادرا على الدفاع عن نفسي ؛لذا كان إطفائي لثمان عشر شمعة لي بالأمس بمثابة ولادتي  من جديد  ؛سأصبح حرا لدي بطاقة هوية ومعترف بي كمواطن له حقوق وواجبات  ...
وجاء اليوم الموعود الذي سيصبح فيه بإمكاني السهر مع أصدقائي  دون رقابة من والدتي وخوفها الذي ستضطر لأن تكتمه بداخلها  رغما عنها ...
ودعتني كمن يودع جنديا  غادر بيته ليحارب العدو ؛ بالنسبة لها كان خارج المنزل عدوها الغامض  ؛عدوها المجهول الذي تخشى علي منه باستمرار ....
وبمباركة مرغمة منها صاحبتها بأدعية المسافر وأذكار الاستعاذة من الشيطان ومن كل إنس وجان  يمكنه أن يصلني منه السوء ؛خصوصا وأن منزلنا يقع قرب واد الزحون في أحد الأحياء العتيقة لمدينة فاس ؛ وهو وادي اشتهر بقصصه المرعبة على مدى سنين طويلة لم تفسر معها سر اختفاء الرجال دون النساء  في ظروف غامضة ؛حتى لكأن المنطقة أصبحت تعيش حظر تجول عن طواعية بعدما يحل الليل  ...
هناك الكثير من الحكايا التي نسجت حول ذلك تقول الأسطورة أن عيشة قنديشة تسكن الوادي وتقتل كل الذكور الذين تصادفهم عيشة قنديشة هي كانت فيما مضى امرأة عادية اسمها عائشة وكان زوجها من قدماء المحاربين  عن وطنه ضد الاستعمار الفرنسي ؛ وقد اعتقله الفرنسيون وعذبوه إلى أن توفي  ؛ولما علمت زوجته بما جرى له أقسمت أن تنتقم له في كل جندي من العدو  ...
فكانت تقتل الجنود الفرنسيين خلسة ولا أحد يعرف كيف فعلت ذلك ؛  لا يستيقظ أحدهم إلا ويجد صديقه الذي كان  نائما  بجانبه بالأمس  مذبوحا بسكين وكتب بدمه اسم عيشة قنديشة تنتقم لزوجها "vous allez tous mourir "هذا كان توقيعها في كل عملية  وتعني ستموتون جميعا  ....
احتار الجنود في أمرها وانتابهم الذعر فكان الواحد منهم يحاول أن يبقى مستيقظا طوال الليل حتى مع لجوئهم للتناوب حول الحراسة يجدون أحدهم مذبوحا بالسكين وعليه توقيعها ....
عبثا حاولوا  بشتى الوسائل القبض عليها ؛ لكنها كانت كمن يلبس طاقية الإخفاء  ؛ لا أحد استطاع أن يجدها رغم أنهم قبضوا على كل أفراد أسرتها ونكلوا بهم الواحد تلو الآخر....
 ومع مرور الأيام  أصبحت سيرتها  على لسان الجميع ؛ المرأة التي أخافت جيشا بأكمله تسكن ذاك الوادي ولم تغادره أبدا ؛ يقولون أنها أصبحت جنية  ويبدو أن انتقامها أصبح عادة مع مرور السنين  ؛إذ هناك من يدعي بأنه يراها بعد منتصف الليل تتجول قرب الوادي وتقتل كل من تصادفه بإغراقه أو خنقه ؛ حيث يتم العثور على  جثته وهي طافية على أطراف الوادي ...
 لم أكن  لأصدق أبدا وجودها  ؛كيف لي أن أصدق  ونحن في القرن الواحد والعشرين  أن هناك امرأة ميتة من سنين مضت تقتل الرجال خصوصا انتقاما لزوجها؟ ليست سوى أسطورة استعانت بها الأمهات على مر السنين لتخيف أطفالها صغارا حتى يتعودوا عدم الابتعاد عن المنزل كبارا ؛  لذا لم أعر لكلام أمي وزنا وهي تطلب مني العودة قبل منتصف الليل  قبل  موعد خروج عيشة قنديشة لاصطياد فرائسها من الذكور الذين يسهرون ليلا  ؛ومع أنني لم أصدق قط هاته الخرافات لذا نزولا عند رغبة أمي الملحة وعدتها ألا أتأخر وسأكون في المنزل قبل أن تدق الساعة منتصف الليل ...
كانت السهرة ممتعة مع الأصدقاء، كنا نضحك ونمرح طوال فترة المساء ؛ قضينا الوقت بين البلاي ستايشن والتجول على صفحات الفايس،والدردشة مع باقي الأصدقاء في بلدان أخرى.... لم أنتبه إلا والساعة تشير إلى الواحدة صباحا استأذنت من الجميع وخرج كل واحد منا يقصد منزله ؛ كنت وحدي أمشي  في اتجاه  الوادي ؛ حاولت أن أسرع الخطى في الرجوع للمنزل  لم يكن منزل صديقي بعيدا جدا تكفي مسافة عشرين دقيقة على الأقدام  وسأصل ما  كنت أخشاه حقا هو  قلق أمي علي أكثر من خوفي على نفسي ؛ خصوصا أنني تركت هاتفي المحمول في المنزل لم أشأ أن آخذه معي حتى لا تزعجني باتصالاتها المتكررة ....
وصلت لطرف الوادي كان علي أن أمشي بمحاذاته لمسافة قبل أن ألج السبيل  الذي يؤدي إلى  الحي حيث يقع  فيه منزلنا من جهة اليمين ؛  ليمتد الوادي لمسافة أخرى حتى يصل إلى الأحياء المجاورة ؛ ذاك الوادي الذي يقسم مدينة فاس لشقين فيما مضى كان يسمى بوادي الجواهر ؛ أما اليوم فقد اختنق بقاذورات المدينة ومخلفاتها وأصبحت رائحته تزكم الأنفاس...
و مع أنني لم أكن خائفا لطالما لعبنا صغارا بمحاذاته ؛ لكن لم يسبق لي أبدا أن رأيته على ضوء القمر ؛ يبدو لي الآن  هادئا ورائحته مشبعة بالرطوبة ؛ لكن هناك شيءما غير عادي ؛ شيء لم أستطع تفسيره ولا إدراكه  أحسست  على حين بغتة  بقشعريرة تسري في جسمي من رأسي حتى أخمص قدمي ؛ فسرتها بداية  أنها من أثار برد شهر ماي المتقلب مع أن الجو ربيعا ونسمة الليل تبدو منعشة لحد ما ...
الطريق خالية من المارة  ؛وحده الليل والوادي وأنا ؛ وضوء خافت ينبعث من مصباح الشارع الطويل ؛  سمعت خشخشة تنبعث  بجانبي وسط الوادي ؛ لم أستطع النظر لأتبين الأمر ؛ رجلاي تقودني في غياب تام لعقلي الذي شل تفكيره  ؛ لتظل الصور الوحيدة العالقة بفكري  تلك الأساطير التي كنت أسمع نساء الحي ترددها عن جنية الوادي ؛ عن عيشة قنديشة باسم الله الرحمان الرحيم.... 
استعذت بالله من الشيطان الرجيم ؛  وحاولت أن أتذكر كل ما حفظته طفلا في (المسيد )  الكتاب من آيات قرآنية
قرأت سورة الإخلاص والمعوذتين بصعوبة فقد خانني التركيز ....
صوت الخشخشة مازال مستمرا  ؛ يرتفع فجأة وينخفض أخرى ؛قلبي يخفق بشدة  بين ضلوعي أحس به يكاد يخرج من مكانه ....
حاولت أن أدير وجهي جهة الصوت لأتبين مصدره ؛ بالكاد  أدرت رأسي بزاوية حادة لأنفجر ضاحكا حين رأيتها ....لم تكن سوى قطة تحت ضوء القمر الخافت ؛ رأيتها  وهي تتحرك فوق أكياس بلاستيكية مرمية هناك. ؛ تحاول أن تفتحها لتقتات مما بداخلها  ؛كانت فضلات بعض السكان الذين لا يتوانون عن رمي الأزبال بجانب الوادي رغم استنكار الجميع  ؛تنفست الصعداء وضحكت على نفسي التي صدقت  للحظة وجود جنية تسكن الوادي ؛ استعدت الثقة بنفسي وتابعت طريقي بكل شجاعة وفخر  بل كنت أردد بيني وبين نفسي أغنية لعبد الحليم حافظ ضي القناديل والشارع الطويل ...عجبا كيف يستطيع الإنسان أن يتكيف مع محيطه ...
 لكن ثقتي وشجاعتي لم تصمد طويلا أمام ما رأيته للتو ؛ توقف عقلي عن الغناء وقلبي استعاد خفقانه المسرع  ؛  أغمضت عيناي وفتحتهما لأتأكد فعلا أن ما أراه صحيحا وليس من وحي خيالي ؛ لكنه حقا ما رأيته ظل ثابتا لا يتحرك ؛ فركت عيناي بيدي مازال ذاك الشيء في مكانه ؛  أمامي مباشرة كأنه يحضر نفسه ليعترض طريقي  لن أستطيع أن أمر بجانبه  دون أن ألامسه لأنه يقف منتصف الطريق بانتظاري...
 نظرت للوراء هل علي أن أعود من حيث أتيت ؟ هل أستمر في السير وأتجاهله ؟ لم يسعفني جسمي ليواكب قرارات عقلي  ؛إذ   تسمرت رجلاي فجأة  ولزمت مكاني كصخرة  وسط طريق جبلي ...
أرى ذاك الشيء  وهو يتحرك باتجاهي رباه ماذا علي أن أفعل ؟هل أصرخ  وأطلب النجدة ؟ ومن سيسمعني ويتجرأ لإنقاذي  ....الآن  وقد اقترب مني أتبينه بوضوح  إنه طيف امرأة ؛ نعم إنها امرأة شعرها طويل ويغطي كتفيها   متشحة بالبياض كشبح ؛ بل كشيء ؛ بل لست أدري لأنه أغمي علي  للحظات فقدت وعيي وأنا مازلت واقفا في مكاني لم أسقط لماذا ؟ فاقد للوعي ومدرك ما يدور مازلت واقفا ...أدركت أني لم أسقط لأنها تلقفتني بيدها أحس ببرودتهما وهي تلمس كتفي وتسندني عليها حاولت أن أتكلم لم تخرج من فمي سوى تمتمات كلمات غير مفهومة صرخات مكتومة بداخلي المرتعب ...
من تكون هاته المرأة دون وجه ؟ مكان العينان رأيت ثقبان غائران ؛ أما باقي تفاصيل جسمها فبدت غير واضحة فقط اليدان  أتذكرهما جيدا كأنهما يدا هيكل عظمي ؛ حين أحاطتني بين ذراعيها ورأيتهما عاودت الإغماء مرة أخرى  ؛لم أستيقظ إلا على يديها تخنقني بشدة  ؛حاولت الاستغاثة كانت تطبق على فمي بيدها والأخرى تحكم قبضتها بها على عنقي  ....
الخوف شل حركتي لولا بعض المقاومة التي ظلت نتيجة لغريزة حب البقاء ساعدتني على الانفلات من قبضتها  ؛والجري بأقصى سرعة في اتجاه المنزل طرقته بكل قوتي ؛ فتحت أختي الباب ارتميت عند أول كنبة ألهث وأختي تنظر إلي باستغراب ؛ تفاجأت من كون أمي لم تسارع لتطمئن علي ؛ ليست هاته عادتها خصوصا أني تأخرت  في العودة ...
هل يمكن أن يكون قد غلبها النعاس ؟ استغربت ذلك وتمنيت لحظتها أن أوقظها وأرتمي  في أحضانها وأخبرها أنها كانت على حق وأن أسطورة عيشة قنديشة حقيقية ؛ نظرت لأختي وهي تبدو كالمصعوقة لعل رؤيتها لي وأنا خائف أرعبتها ؛ حاولت أن أقترب منها لأطمئنها أني بخير ؛ وبمجرد ما خطوت اتجاهها صرخت بأعلى صوتها ؛ هاهي أمي تخرج من الغرفة المجاورة مرتعبة  تسرع نحوها بعدما تخطتني ؛ كأنني غير موجود اخترقت جسمي وشطرته نصفين لأعود كما كنت بعد مرورها ؛ فوجئت بما أرى ناديتها 
- أمي أنا هنا ؛ أنا عدت  ؛أنا خائف أكثر من أختي 
لكنها مازالت لا تنظر اتجاهي ؛ لكأنها لا تراني ولا تسمع صوتي ؛ هي تنتبه فقط لأختي الممددة أرضا والمشدوهة وهي تنظر اتجاهي؛ وأمي تولول بجانبها وتستعيذ من الشيطان ...
لم أفهم ما الذي يجري ؛ ما الذي حصل في غيابي لليلة واحدة عن المنزل ؛ الليلة الأولى التي تأخرت فيها... عاودت النداء 
-أمي انظري إلي أنا ابنك أحمد
أمسكتها من كتفيها لأحاول أن أجعلها تنظر في عيني لكنها لم تتحرك ولم تنظر اتجاهي ؛ يبدو أنها مازالت لا تسمع نداءاتي ؛  نظرت إلى أختي متوسلا و التي بدت لي الوحيدة التي تراني رغم حالتها المتذبذبة طلبت منها أن تشرح لي ما يحصل في البيت ...
أمي وهي تحضر زجاجة العطر تضعها على أنف أختي لتوقظها  ؛بعدما وضعت المفاتيح أيضا في يدها اليمنى لم أفهم قط تلك الطقوس فقط أصغيت السمع لأختي وهي تخاطب أمي 
بصوت مضطرب قالت لها :
-أحمد هنا 
-من أحمد ؟
-أحمد أخي 
-أحمد ابني يرحمه الله ؛ لا توقظي جراحي بالله عليك يا ابنتي تعلمين جيدا أنه غرق في الوادي من سنة وعثرنا على جثته .....
ثم أخذت تجهش بالبكاء بصوت مرتفع 
ماالذي أسمعه من أنا إذن  إن لم أكن أنا ؟
ناديت أمي بأعلى صوتي :
-أماه أنا أحمد ؛ انظري إلي أنا لم أمت ...
لكن أبدا لم تراني قلبي يتمزق وأنا أسمع نحيبها وهي تردد 
-أحمد أخذته عيشة قنديشة مني العام الماضي
تمت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.